"الرعاية حق إنساني".. هل يعزز نضال العاملين ويحقق عدالة اجتماعية أكثر شمولاً؟
"الرعاية حق إنساني".. هل يعزز نضال العاملين ويحقق عدالة اجتماعية أكثر شمولاً؟
في تحوّل قانوني غير مسبوق، أكدت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان أن الرعاية ليست مجرد خدمة اجتماعية أو واجبًا عائليًا، بل هي حق إنساني مستقل يجب على الدول احترامه وحمايته وتمويله، يمثل هذا القرار نقطة انعطاف في الفكر الحقوقي العالمي، ويفتح آفاقًا جديدة لنضال العاملات والعاملين في مجال الرعاية، خاصة النساء اللاتي يتحملن العبء الأكبر من هذا العمل غير المرئي وغير المعترف به.
الاعتراف بالرعاية كحق
وفق بيان نشره مركز التضامن الحقوقي، صدر الرأي الاستشاري رقم OC-31/25 في عام 2025، بناءً على طلب من جمهورية الأرجنتين، حيث قضت المحكمة بأن تقديم الرعاية، سواء أكانت مدفوعة الأجر أم لا، يُشكّل عنصرًا أساسيًا لكرامة الإنسان، ما يستوجب اعترافًا قانونيًا ومؤسسيًا. وقد اعتبر هذا التطور القانوني بمثابة "نصر سياسي للنساء والعاملين في مجال الرعاية"، بحسب منظمة Public Services" International (PSI)".
هذا القرار يُنهي عقودًا من التهميش المؤسسي لعمل الرعاية، ويعترف به كركيزة من ركائز المجتمع، ما يُجبر الدول على إعادة النظر في سياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
عمل النساء غير المرئي.. واقع اقتصادي ظالم
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، تُنفذ النساء حول العالم أكثر من 75% من أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، ما يُعادل 13% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إذا ما تم احتسابه كقيمة اقتصادية، إلا أن هذا الجهد الجسيم لم يكن يومًا محميًا بمظلة قانونية أو مشمولًا بسياسات اجتماعية عادلة.
وصرحت شيرلين دوس سانتوس بريتو، من الاتحاد البرازيلي لعمال المنازل (FENATRAD): "حين تذهب إلى العمل، نحن نرعى أطفالك ومنزلك، عملنا يُمكّنك من العمل، يجب أن يُدرك المجتمع قيمة عملنا".
إن عدم الاعتراف بعمل الرعاية كنشاط اقتصادي ذي قيمة، يؤدي إلى تهميش ملايين النساء، ويديم فجوات الأجور بين الجنسين، ويُقيد إمكانية مشاركة النساء الكاملة في سوق العمل.
التزامات قانونية على الدول
الرأي الصادر عن المحكمة لا يحمل طابعًا رمزيًا فقط، بل يُرسي مسؤوليات قانونية واضحة تتمثل في الاعتراف القانوني بالعاملين في مجال الرعاية مدفوعة الأجر، وضمان تمتعهم بجميع الحقوق العمالية، بما فيها الأجور العادلة، ظروف العمل الآمنة، والحق في التنظيم والتفاوض الجماعي، وكذلك إدراج العاملين في الرعاية غير مدفوعة الأجر ضمن أنظمة الضمان الاجتماعي، من خلال توفير معاشات تقاعدية، إجازات أمومة وأبوة، ودعم مالي تعويضي.
كما تتضمن المسؤوليات وضع سياسات مرنة للعمل تسمح بتوازن مسؤوليات الرعاية والعمل، مثل إجازات الوالدين وإمكانية العمل الجزئي أو من المنزل، إضافة إلى حماية العاملات المنزليات المهاجرات، اللاتي غالبًا ما يكنّ عرضة للعمل القسري أو ظروف العمل الاستغلالية، بتشريعات تتسم بالشفافية والصرامة.
تأييد واسع وتحرك سياسي قادم
لقي القرار ترحيبًا واسعًا من المنظمات الحقوقية الدولية، من أبرزها: شبكة المحامين الدوليين لمساعدة العمال (ILAW) التي ساهمت بمذكرة قانونية دعت إلى حماية قانونية شاملة لعاملات الرعاية، كما رأى مركز التضامن في القرار "زخمًا قانونيًا جديدًا" يُمكّن النقابات من الدفع بإصلاحات واقعية في السياسات الاجتماعية.
فيما تعهدت منظمة PSI، بتحويل القرار إلى أداة سياسية للمطالبة بأنظمة رعاية ممولة من القطاع العام تكون شاملة ومجانية، باعتبار ذلك التزامًا بحقوق الإنسان وليس ترفًا سياسيًا.
ومن المرتقب أن يكون هذا الموضوع حاضرًا بقوة في المؤتمر الإقليمي السادس عشر للمرأة في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، المنعقد بين 12 و15 أغسطس 2025 في المكسيك، حيث ستدفع الوفود باتجاه “تلاتيلولكو جديدة” أكثر طموحًا وعدالة.
الرعاية في القانون الدولي.. جذور متأخرة لتقدم حتمي
رغم أهمية القرار، فإن الاعتراف بالرعاية ضمن منظومة حقوق الإنسان ليس وليد اللحظة، فمنذ عقود، دعت تقارير لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة (سيداو) إلى: الاعتراف بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وتطوير مؤشرات اقتصادية لقياس قيمتها الفعلية، وإدماجها ضمن سياسات العدالة الجندرية.
لكن بقيت هذه التوصيات بعيدة عن التنفيذ الفعلي، خاصة في دول الجنوب العالمي، حيث ترتبط الرعاية بأطر ثقافية أبوية تعتبرها "واجبًا أنثويًا طبيعيًا"، لا يستحق الأجر أو الحماية.
الطريق إلى العدالة الاجتماعية
إن الاعتراف بالرعاية كحق إنساني لا يكتمل ما لم يترجم إلى: أنظمة رعاية وطنية شاملة وممولة بالكامل من الدولة، سياسات ضريبية عادلة، تضمن تمويل الرعاية بشكل مستدام، وإدماج العدالة الجندرية في جميع مستويات اتخاذ القرار، وبناء ثقافة مجتمعية تُقدر الرعاية كعمل حيوي لا غنى عنه.
وهذا ما تسعى PSI لتحقيقه من خلال استراتيجية متكاملة تجمع بين النضال النقابي والمناصرة القانونية والتعبئة الشعبية.
نحو اقتصاد رعاية عادل وشامل
يؤكد مراقبون حقوقيون أن المجتمعات العادلة لا تقوم فقط على الإنتاج والربح، بل على الرعاية كقيمة إنسانية واقتصادية، لقد فتح قرار محكمة البلدان الأمريكية الباب أمام تحوّل جذري في فهمنا للمساواة والعمل والعدالة الاجتماعية.
فالحق في الرعاية لم يعد مسألة رفاهية اجتماعية، بل ضرورة ديمقراطية تضمن مشاركة الجميع، خصوصًا النساء، في تشكيل المستقبل السياسي والاقتصادي لمجتمعاتنا.
الرهان الآن على قدرة الحكومات على تحويل هذا القرار إلى واقع ملموس يضمن أجورًا عادلة، وحمايات قانونية، وأنظمة رعاية إنسانية.